الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وجاء في الآية الثانية وقال ربنا: {نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم} [الإسراء: 31].قد يقول من لا يملك ملكة اللغة: فأيهما بليغة؟ إن كانت الأولى فالثانية ليست بليغة، وإن كانت الثانية فالأولى ليست بليغة.نقول له: أنت أخذت عجز كل آية فقط. وعليك أن تأخذ عجز كل آية مع صدرها. صحيح أن عجز الآية مختلف؛ لأنه يقول في الأولى: {نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} وفي الثانية يقول: {نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم}. ولكن هل صدر الآية متحد؟ لا، فصدر كل آية مختلف؛ لأنه قال: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ}. فكأن الإملاق موجود.. حاصل؛ لذلك شغل المخاطب برزقه قبل أن يشغل برزق ولده.. ويخاف أن يأتي له الولد فلا يجد ما يطعمه. لأنه هو نفسه فقير. فيطمئنه الله على رزقه أولا ثم بعد ذلك يطمئنه على رزق من سيأتي: {نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ}.. لكن في الآية الثانية لم يقل ذلك.. بل قال: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} كأنه يخاف أن يفقد ماله ويصير فقيرًا عندما يأتي الولد، وما دام قد قال: {خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} فهذا يعني أن الإملاق غير موجود، ولكنه يخاف الإملاق إن جاء الولد، يخاف أن يأتيه الولد فيأتيه الفقر معه، فأوضح الحق له: لا تخف فسيأتي الولد برزقه.. {نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم} إذن إن نظرت إلى الآية عجزها مع صدرها.. تجد العلاقة مكتملة، ويحاول بعضهم أن يجد منفذًا للطعن في بلاغة القرآن فيتساءل لماذا يقول الحق في آية في القرآن: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [لقمان: 17].وفي سورة ثانية يقول: {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [الشورى: 43].ونقول لهم: أنتم لم تفهموا الآيات على حقيقتها. ففي الآية الأولى يقول: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} أي في المصائب التي لا غريم لك فيها. وما دام ليس لك غريم فيها.. فماذا تفعل؟ لكن إذا كان لك غريم وخصم فقد تتحرك نفسك بأن تنتقم منه. ولذلك فانتبه لقوله الحق: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} يناسب الموقف الذي لا يوجد فيه غريم، وفي الآية الثانية: {إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} فالآية تناسب الموقف الذي فيه غريم لأنك ستصبر على المصيبة وعلى من عملها من غريم؛ لأنك كلما رأيته تهيج نفسك وهذا يحتاج لتأكيد الصبر بقوة، وتلك هي كلمات المستشرقين الذين يريدون الطعن في القرآن ويقولون لنا: أنتم تنظرون للقرآن بقداسة لكنكم لو نظرتم إليه بتفحص لوجدتم أن فيه اختلافات كثيرة، نقول لهم: قولوا لنا المخالفات، ونحن رددنا على هذا في ثنايا خواطرنا عن القرآن، ومنهم من يقول لك مثلًا: القرآن عندما تعرض لقضية خلق السماوات والأرض جاءت كل الآيات لتؤكد أن الله سبحانه خلقها في ستة أيام.لكنهم يقولون عندما نذهب إلى آيات التفصيل في قوله: {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِّلسَّائِلِينَ * ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [فصلت: 9- 12].نجدها ثمانية أيام فقالوا: هذا خلاف. نقول لهم: أنتم لم تفهموا. فسبحانه حين قال: {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ}، فهل تكلم عما تستقيم به الحياة على الأرض؟ إنه عندما تكلم عن الأرض يقول: {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا}، فهذه تكون تتمة الأرض لأنه يتكلم عن الأرض.. {وَجَعَلَ فِيهَا} أي الأرض.. {رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا}.. وكل ذلك في الأرض.. إذن فالمرحلة الثانية مرحلة تتمة خلق الأرض فسبحانه خلق الأرض كجرم أولًا، وبعد ذلك جعل فيها الرواسي وجعل فيها الأقوات وبارك فيها. في كم يوما؟ في أربعة أيام فكأن اليومين الأولين دخلا في الأربعة، لأن هذه تتمة خلق الأرض.ولله المثل الأعلى، مثلما تقول: سرت من هنا إلى الإسماعيلية في ساعة، وإلى بورسعيد في ساعتين، فقولك: إلى بورسعيد في ساعتين، يعني أن الساعة الأولى تم حسابها، إذن فهؤلاء المستشرقون لم يفهموا معطيات القرآن؛ لذلك يقول سبحانه: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} فإن وجدت شيئا ظاهريا يثير تساؤلا في القرآن فأعمل عقلك، وأعمل فكرك كي تعرف أن التناقض في فهمك أنت وليس التناقض في القرآن؛ لأنه مِنْ عند مَن إذا قص واقعا قصه على حقيقته، وعند مَن لا يغيب شيء عنه، لا حجاب الزمن الماضي، ولا حجاب الزمن المستقبل، ولا حجاب المكان، ولا حجاب المكين {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا}، فالقرآن كتاب كبير به أربع عشرة ومائة سورة، بالله هاتوا أي أديب من الأدباء كي يكتب هذا، ثم انظروا في فصاحته، إنّكم ستجدونه قويا في ناحية وضعيفا في ناحية أخرى، وبعد ذلك قد تجدونه أخل بالمعنى، وقال كلمتين هنا ثم جاء بما يناقضهما بعد ذلك! مثلما فعل أبو العلاء المعري عندما قال:
وكان أيام قوله هذا: ينكر البعث.وعندما رجع إلى صوابه بعد ذلك قال: إذن فالتناقض يأتي مع صاحب الأغيار الذي كان له رأي أولًا ثم عدلته التجربة أو الواقع إلى رأي آخر. لكن ربنا سبحانه وتعالى لا يتغير ومعلومه لا يتغير فهو الحق، إذن فالتناقض يأتي إما من واحد يكذب؛ لأن الواقع لم يحكمه، وإما من واحد هو في ذاته متغير، فرأى رأيًا ثم عدل عنه، فيكون متغيرًا. لكن الحق سبحانه وتعالى لا يتغير.. ويقول على الواقع الحق: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا}.والواقع أيضًا أننا نجد كل قضية قرآنية تعرض كنص من نصوص القرآن أنزله الله على رسوله.. هذه القضية القرآنية في كون له تغيرات، والتغيرات بعضها يكون من مؤمن بالقرآن، وبعضها يكون من غير مؤمن بالقرآن، فهل رأيت قضية قرآنية ثم جاءت قضية الكون حتى من غير المؤمنين فكذبتها؟. لا، هم في الغرب مثلًا بعد الحرب العالمية الأولى اخترعوا أسطوانة تحطيم الجوهر الفرد والجزء الذي لا يتجزأ.. وكانت تلك أول مرحلة في تفتيت الذرة، ونجد القرآن يضرب المثل بالذرة، وأنها أصغر شيء في قوله سبحانه: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7].وضع العلماء أيديهم على قلوبهم لأن الذرة قد تفتت. فوجد ما هو أصغر من الذرة!! ووجدنا من قرأ القرآن.. وقال: إن القرآن نزل في عصر كان أصغر شيء فيه «الذرة» عند العربي القديم، والله يعلم أزلا أن العلم سيطمح ويرتقي ويفتت الذرة، فقال: {عَالِمِ الْغَيْبِ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [سبأ: 3].لقد تدبر صاحب هذا القول القرآن وفهم عن الله الذي تتساوى عنده الأزمنة، فالمستقبل مثل الماضي، ليس عنده علم مستقبل وعلم حاضر وعلم ماضٍ، وأوضح لنا: أن هناك ما هو أصغر من الذرة. فلو فتتوا المفتت منها لوجدنا في القرآن له رصيدًا.تعالوا للقضايا الاجتماعية مثلًا. تجدوا أي قضية قرآنية يجتمع لها خصوم القرآن ليجدوا مطعنًا، فنجد من لم يفهموا من المسلمين يجرون وراءهم ويقولون: هذه الأمور لم تعد ملائمة للعصر، ثم نجد أعداء الإسلام يواجَهُون بظروف لا يجدون حلًا لمشكلاتهم إلا ما جاء في القرآن.{أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا}.ومثال آخر: بعض الناس يقولون: هناك اختلاف في القراءات.. مثل قوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4].ويقول: هناك من يقرؤها {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}.. لكن هناك ما يُسمى «تربيب الفائدة» لأن كلمة «مالك» وكلمة «مَلِك» معناهما واحد، والقرآن كيف يكون من عند غير الله؟ {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ}- أي القرآن- {من عند غير الله} أغير الله كان يأتي بقرآن؟! لا. إنما القرآن لا يأتي إلا من الله سبحانه وتعالى، {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا}.إن قوله سبحانه: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} تكريم للإنسان، فكأن الإنسان قد خلقه الله ليستقبل الأشياء بفكر لو استعمله استعمالًا حقيقيًا لانتهى إلى مطلوبات الحق، وهذه شهادة للإنسان، فكأن الإنسان مزود بآلة فكرية.. هذه الآلة الفكرية لو استعملها لوصل إلى حقائق الأشياء، ولاحق لا يريد منا إلا أن نعمل هذه الآلة: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا} فالقرآن كلام الله، وكلام الله صفته، وصفة الكامل كاملة، والاختلاف يناقض الكمال. فمعنى الاختلاف أنك تجد آية تختلف مع آية أخرى، فكأن الذي قال هذه نسي أنه قالها!! وبعد ذلك جاء بأمر يناقضها، ولو كان عنده كمال لعرف ما قال أولًا كي لا يخالفه ثانيًا.إذن فلا تضارب ولا اختلاف في القرآن؛ لأنه من عند الله. اهـ. .من فوائد صاحب المنار في الآيات السابقة: قال رحمه الله:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}أَخْرَجَ النَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ وَأَصْحَابًا لَهُ أَتَوُا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: يَا نَبِيَّ اللهِ كُنَّا فِي عِزٍّ وَنَحْنُ مُشْرِكُونَ فَلَمَّا آمَنَّا صِرْنَا أَذِلَّةً، فَقَالَ: أُمِرْتُ بِالْعَفْوِ فَلَا تُقَاتِلُوا الْقَوْمَ فَلَمَّا حَوَّلَهُ اللهُ إِلَى الْمَدِينَةِ أَمَرَهُمْ بِالْقِتَالِ فَكَفُّوا، فَأَنْزَلَ اللهُ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ الْآيَةَ، ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ فِي لُبَابِ النُّقُولِ، وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ وَعِنْدَهُ رِوَايَاتٌ أُخْرَى أَنَّهَا فِي أُنَاسٍ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلَى الْإِبْهَامِ.قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّنِي أَجْزِمُ بِبُطْلَانِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ مَهْمَا كَانَ سَنَدُهَا؛ لِأَنَّنِي أُبَرِّئُ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ كَسَعْدٍ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ مِمَّا رُمُوا بِهِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ مُتَّصِلَةٌ بِمَا قَبْلَهَا، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى أَمَرَ بِأَخْذِ الْحَذَرِ وَالِاسْتِعْدَادِ لِلْقِتَالِ وَالنَّفْرِ لَهُ، وَذَكَرَ حَالَ الْمُبْطِئِينَ لِضَعْفِ قُلُوبِهِمْ، وَأَمْرَهُمْ بِمَا أَمَرَهُمْ مِنَ الْقِتَالِ فِي سَبِيلِهِ وَإِنْقَاذِ الْمُسْتَضْعَفِينَ، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ شَأْنًا آخَرَ مِنْ شُئُونِهِمْ وَذَلِكَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ، كَانُوا قَبْلَ الْإِسْلَامِ فِي تَخَاصُمٍ وَتَلَاحُمٍ وَحُرُوبٍ مُسْتَحِرَّةٍ مُسْتَمِرَّةٍ- وَلاسيما الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ- فَإِنَّ الْحُرُوبَ بَيْنَهُمْ لَمْ تَنْقَطِعْ إِلَّا بِالْإِسْلَامِ، وَبَعْدَ هِجْرَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَيْهِمْ أَمَرَهُمُ الْإِسْلَامُ بِالسِّلْمِ وَتَهْذِيبِ النُّفُوسِ بِالْعِبَادَةِ وَالْكَفِّ عَنِ الِاعْتِدَاءِ وَالْقِتَالِ إِلَى أَنِ اشْتَدَّتِ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ فَفَرَضَهُ عَلَيْهِمْ فَكَرِهَهُ الضُّعَفَاءُ مِنْهُمْ، قَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} الِاسْتِفْهَامُ لِلتَّعْجِيبِ مِنْهُمْ إِذْ أَمَرَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِاحْتِرَامِ الدِّمَاءِ، وَكَفِّ الْأَيْدِي عَنِ الِاعْتِدَاءِ، وَبِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ، وَبِالْخُشُوعِ وَالْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ، وَتَمْكِينِ الْإِيمَانِ فِي قُلُوبِهِمْ، وَبِإِيتَاءِ الزَّكَاةِ الَّتِي تُفِيدُ مَعَ تَمْكِينِ الْإِيمَانِ شَدَّ أَوَاخِي التَّرَاحُمِ بَيْنَهُمْ، فَأَحَبُّوا أَنْ يَكْتُبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْقِتَالَ لِيَجْرُوا عَلَى مَا تَعَوَّدُوا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ لِلدِّفَاعِ عَنْ بَيْضَتِهِمْ وَحِمَايَةِ حَقِيقَتِهِمْ، كَرِهَهُ الضُّعَفَاءُ مِنْهُمْ، وَكَانَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَفْقَهُوا مِنَ الْأَمْرِ بِكَفِّ الْأَيْدِي أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يُحِبُّ سَفْكَ الدِّمَاءِ، وَأَنَّهُ مَا كَتَبَ الْقِتَالَ إِلَّا لِضَرُورَةِ دِفَاعِ الْمُبْطِلِينَ الْمُغِيرِينَ عَلَى الْحَقِّ وَأَهْلِهِ لِأَنَّهُمْ خَالَفُوا أَبَاطِيلَهُمْ وَاتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ، فَيُرِيدُونَ أَنْ يُنَكِّلُوا بِهِمْ، أَوْ يَرْجِعُوا عَنْ حَقِّهِمْ فَأَيْنَ مَحَلُّ الِاسْتِنْكَارِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ؟ وَهَؤُلَاءِ هُمْ ضُعَفَاءُ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ ذَكَرَ أَنَّهُمْ يُبْطِئُونَ عَنِ الْقِتَالِ وَلِذَلِكَ قَالَ: إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وأَوْ هُنَا بِمَعْنَى «بَلْ» أَيْ: إِنَّهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ بَيْنَ اثْنَيْنِ فِي الْخَشْيَةِ أَنْ يَمِيلَ إِلَى هَذَا تَارَةً وَإِلَى الْآخَرِ تَارَةً، وَكَانَ هَؤُلَاءِ قَدْ رَجَّحُوا بِتَرْكِ الْقِتَالِ خَشْيَةَ النَّاسِ مُطْلَقًا قَالَ: أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً أَيْ: بَلْ أَشَدَّ خَشْيَةً، أَقُولُ: اسْتَنْكَرَ الْأُسْتَاذُ نُزُولَ الْآيَةِ فِي بَعْضِ كِبَارِ الصَّحَابَةِ الْمَشْهُودِ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ وَمَا اسْتَحَقُّوهَا إِلَّا بِقُوَّةِ الْإِيمَانِ، وَالْعَمَلِ وَالْإِذْعَانِ، وَجَعْلِهَا فِي الْمُبْطِئِينَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي اخْتَارَهُ فِيهِمْ وَهُوَ أَنَّهُمْ ضِعَافُ الْإِيمَانِ، وَالْوَجْهُ الْآخَرُ أَنَّهُمُ الْمُنَافِقُونَ كَمَا تَقَدَّمَ، فَكَيْفَ تُصَدِّقُ رِوَايَةً تَجْعَلُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ مِنْهُمْ!
|